لا تقوم المجتمعات ولا تتحضر إلا من خلال التنظيم ووضع خطوط أساسية وضوابط للعمل في النشاطات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وهذا ما يجب العمل عليه في مناطق شمال غرب سورية التي تمتلك ما يتيح لها النهوض والتطور، رغم جميع الضغوط التي تتعرض لها من النظام القابع في دمشق وحلفائه، وأهم الإمكانيات التي تحظى بها المناطق المحررة الإمكانيات البشرية، لوجود نسبة عالية من القوة العاملة مستعدة للشغل والبناء والإبداع.
فعلى مدى سنوات دأبت حكومة الإنقاذ متمثلة بوزارة الاقتصاد والموارد على تنظيم القطاع الاقتصادي، وإتاحة المجال أمام المستثمرين، بادئة من سن القوانين الناظمة، والتشجيع على التجمع في نقابات واتحادات مهنية، وتنظيم قطاعي الاستيراد والتصدير بما يضمن مصالح المنتجين، وكون الكثافة السكانية في المحرر آخذة بالازدياد، شهد مجال البناء والمقاولات توسعا كبيرا حاولت مختلف الوزارات استيعابه ومنع الفوضى فيه، بدءا من التخطيط العمراني وانتهاءً بترخيص مناشر الحجر.
تعد مهنة قص الحجر ذات أهمية اقتصادية كبرى لاقتصاد المحرر والمادة الأولية لهذه الصناعة هي صخور خام من الغرانيت والرخام وغيرها، بعضها يستخرج من مقالع محلية وبعضها يستجلب من الخارج، أما الإنتاج فيخرج بأشكال وأحجام مختلفة وفيها نحت بزخارف متنوعة حسب الطلب، لتستعمل في الكسوة الداخلية والخارجية للأبنية والمرافق، وحتى في الأثاث المنزلي وهذا ما يجعل الحجر السوري مطلوباً حول العالم وخاصة في الخليج وأوربا وأمريكا، ولذلك فإن هذا المنتج هو الأكثر تصديراً بين بضائع المناطق المحررة.
ويضم قطاع مناشر الحجر أكثر من 185 معملا يشتغل به قطاع عريض من الأيدي العاملة، ويذهب معظم إنتاجه للتصدير عائداً على المحرر بالقطع الأجنبي، لكن بعد أن كثرت شكاوى الأهالي على معامل الحجر بسبب الغبار المنتشر منها الذي يضر الجهاز التنفسي، وبسبب الضجيج الذي يصدر عن آلات القص والنحت، كان لزاما على وزارة الاقتصاد تسريع إجراءات الترخيص بعد وضع الشروط الواجب توفرها في المصانع من حيث المكان والمساحة وإجراءات السلامة.
وتتوزع منشآت هذه المهنة على كامل المناطق المحررة وتعد من أشد المهن خطورة وصعوبة وتحمل في طياتها عددا من الآثار السلبية على محيطها سواء التجمعات السكنية أو الأراضي الزراعية، إذ تتأثر المزروعات المحيطة بهذه المنشآت نتيجة الغبار الناتج عنها، فيضعف إنتاجها لما يصل إلى 70%، وعلى صحة الأهالي، فإن التعرض الطويل الأمد للغبار والأتربة الناتجة عن هذه المنشآت يؤثر على الجهاز التنفسي ما يزيد احتمالية الإصابة بالأمراض ومنها الربو والربو التحسسي، يقول “أحمد” وهو ممن يسكنون قريبا من إحدى هذه المنشآت: ” معمل الحجر القريب يصدر ضجيجا عاليا في معظم النهار إضافة للغبار الكثيف الذي ينتشر حسب اتجاه الرياح، ولا يمكننا فتح نوافذ البيت إلا في أوقات قليلة فيبقى البيت مغلقا حتى في الحر الشديد”
وعلى هذا بدأت وزارة الاقتصاد والموارد متمثلة بالمديرية العامة للصناعة بتحديد معايير وشروط العمل في هذه المنشآت كونها من الصناعات الخطرة، لعل أبرزها توفير أمكنة بعيدة عن التجمعات السكنية وعن الأراضي الزراعية، كما تفرض الوزارة على القائمين على مناشر الحجر توفير شروط السلامة للعاملين وحمايتهم من الأخطار اليومية أو الأخطار التي قد يتعرضون لها على المدى البعيد، وتسعى وزارة الاقتصاد والموارد من هذه الخطوات ليستكمل أصحاب هذه المهنة الشروط التي تتيح لهم الحصول على تراخيص وبالتالي سهولة إجراءات العمل والتسويق وتطوير منشآتهم بعيدا عن الإضرار بالسكان.
مشاكل الصناعيين:
وكغيرها من الصناعات، تعاني مناشر الحجر والرخام من صعوبات تبدأ بتوفير المواد الأولية، إذ تفتقر المناطق المحررة إلى عدد من أنواع الصخور، ما يستلزم استيرادها، ويتعلق بهذا مشاكل في السعر والوقت والتعقيدات الإدارية، والأمر الثاني يتعلق بالشكاوى على معاملهم ما يحتم إيجاد مكان يتصف ببعده عن السكن والحقول الزراعية، وأخيرا فإن مهارة تصريف الإنتاج تأتي بالدرجة الأولى لأي نشاط تجاري، لتجنب كساد البضاعة أو تجميد رأس المال، وهنا فإن فتح أبواب التصدير عبر تركيا نحو الدول المستهلكة يعد أمرا جوهريا لنجاح هذه المشاريع الواعدة، وفي هذا السياق قال الصناعي “أبو عدنان”: “نطالب الجهات المعنية بأن توفر لنا مكانا تراه مناسبا لاستمرار عملنا بحيث لا نسبب الأذى للسكان ولا للمزارعين، لذلك فنحن مع أي خطوة من هذا النوع، كما نطلب أن تقدم تسهيلات في مجالي استيراد المواد الخام وتصدير المنتجات”.
مستقبل صناعة نشر الحجر:
وبالعودة إلى وزارة الاقتصاد فقد عرضنا على مدير المديرية العامة للصناعة الأستاذ “مضر العمر” شكاوى الأهالي وهواجس الصناعيين والمستثمرين فقال:
” تسعى المديرية لتنظيم صناعة مناشر الحجر والرخام في المناطق المحررة، والتخلص من التوزع العشوائي لها وتجنب أضرارها على السكان والمزروعات، ونعمل حالياً -في المديرية العامة للصناعة- على تأمين مدينة صناعية جديدة تستوعب هذه الصناعة وغيرها من الصناعات الخطرة، بحيث تكون قريبة من المعابر الحدودية لتسهيل عمليات التصدير إلى الخارج، إدراكا من للأهمية الاقتصادية لها ودور الهام في تشغيل اليد العاملة”.
ويذكر أن معظم إنتاج هذه المنشآت (ما يقارب 80%) يذهب للتصدير، وستتيح الإجراءات التي تكلم عنها مدير الصناعة للمستثمرين أريحية في تطوير منتجاتهم وتوسيعها مع سهولة التصريف، ومن شأن ذلك أن يعود بالخير والفائدة على عموم المناطق المحررة.
تواجه صناعة الحجر في المحرر مشكلات متعددة تتمثل في عدم توفر المخططين الاستراتيجيين والخبراء، وأسلوب الإدارة الفردي، ومشاكل تسويقية ناتجة عن عدم توفر مختصين بالتسويق، فضلاً عن انعدام تصدير الناتج منها، إضافة للمشكلات التقنية، وعدم توفر البنية التحتية المناسبة والداعمة للصناعة، كما لعب الكساد في السوق المحلية، دورًا بارزًا في تراجع المبيعات وضعف السيولة.
مما سبق يتبين لنا أنه وبالرغم من تطور هذه الصناعة ولعبها دورا مهما في إجمالي الناتج القومي في المحرر ومساهمتها في خلق فرص عمل، إلا أنه ينقصها البعد والأفق العلمي المبني على نتائج الدراسات الجيولوجية وتوظيف الكفاءات المدربة والماهرة في هذا المجال، لذلك كان لا بد من تسليط الضوء على فكرة تأسيس مركز متخصص لرفد هذه الصناعة بكوادر مؤهلة ومدربة، بحيث تسهم في تطور صناعة الحجر والرخام وتساعد في استمرارية الثبات لهذا القطاع.